Skip to main content
Four men stand together on a tented stage playing percussive instruments. They are dressed in brightly patterned clothes and are filmed by people holding cellphones.

A crowd gathers around the start of a stambeli procession at the Mouled Festival’s promotional day in Tunis.

Photo courtesy of Raafet Khiari/USAID

  • الرقص الصوفي : المولد النبوي، الموسيقى، والذاكرة الثقافية في المهرجان التونسي


    Read this article in English

    بدأنا نسير باتجاه أصوات الطبول التي كانت تقترب وتتعالى مع كل منعطف في طرق مدينة القيروان الملتوية في تونس. مشينا خلف مجموعة من الأشخاص ممن كانوا مثلنا يتتبعون مصدر الموسيقى الداوية بينما كنا جميعنا نحتمي في ظلال الطرق الضيقة من شمس هذا اليوم الحار من شهر أكتوبر. وأخيرا انفرجت الطريق الضيقة إلى ساحة مكتظة بالناس في وسطها فرقة موسيقية، أفرادها يرتدون الزي التونسي التقليدي ويضربون على الطبول ويغنون أغانٍ من الواضح أن الجمهور المتجمع يعرفها عن ظهر قلب. كان الناس هناك بكبيرهم وصغيرهم، رجالهم ونسائهم، جميعهم يتمايلون ويرقصون على أنغام الموسيقى ويرددون الأغاني التي كانت الفرقة تعزفها. ولم يقتصر هذا فقط على الأشخاص المجتمعين في الساحة، فقد شاهدنا عددا من الصبيان على أسطح المباني يرقصون ويغنون وهم يستمتعون بمشاهدة الفرقة من الأعلى.

    كان هذا العرض الموسيقي المشوق جزءا من البرنامج النهاري لمهرجان المولد النبوي الشريف السنوي. وهذا الغناء والحماس الذي رأيناه هناك كان فقط عينة بسيطة من السرور والبهجة والفرح التي شهدناها أثناء فعاليات المهرجان التي استمرت لعشرة أيام واستقطبت إلى شوارع مدينة القيروان جمهورا يزيد عن مليون مشاهد ومشاهدة.

    يقام مهرجان المولد النبوي سنويا في القيروان للاحتفاء بيوم مولد النبي محمد عليه الصلاة والسلام حيث تعج المساجد بالمسلمين للاستماع إلى الذكر والمدائح النبوية وترتيل القرآن الكريم. وهي مناسبة مهمة في منطقة شمال أفريقيا حيث تقيم مصر أكبر وأهم مهرجانات المولد النبوي في المنطقة بينما تأتي تونس في المرتبة الثانية. ومع العلم أن مدينة القدس ومكة المكرمة والمدينة هي مدن المسلمين المقدسة الأساسية إلا أن مدينة القيروان توصف بأنها "رابعة الثلاثة" في أهميتها الدينية ولذلك فهي تستقطب العديد من المسلمين إلى مهرجاناتها الدينية، عندها تتحول المدينة إلى سوق ضخمة ومخيم للزوار ومهرجان موسيقي كبير.

    وطبعا لا تكتمل احتفالات تونس من دون تقديم الأطعمة الشهية والمشبعة ولا يكتمل الاحتفال بعيد المولد النبوي من دون طبق "العصيدة" وهو الطبق المميز الذي يتم تحضيره بكميات كبيرة خصيصا لهذه المناسبة، ويقدم مع التمر والمكسرات وزيت الزيتون. وقد سمعت صديقين يتمازحان قائلين إن الأمهات في تونس يحضرن العصيدة مرة واحدة في السنة فقط لمناسبة المولد النبوي ويرفضن تحضيرها في الأيام العادية. ومع أن العصيدة معروفة في البلدان المجاورة إلا أن "عصيدة الزقوقو" التونسية فريدة من نوعها، وتتميز عن غيرها من العصائد بأنها مصنوعة من حبات الصنوبر الحلبي السوداء. وبالإضافة إلى الزقوقو يقبل أهل مدينة القيروان وزوارها على شراء كميات كبيرة من حلويات "المقروض التونسي" المصنوعة من المكسرات والتمر. لم نستطع مقاومة هذه الحلويات الشهية وكلما قدمت لنا أكلناها بكل سرور حتى ولو كانت معدنا ممتلئة.

    Behind a glass counter covered in sweets stand people of all ages admiring the treats, waiting to order.
    أثناء أحد العروض النهارية يقوم أحد أفراد الفرقة بإثارة حماس الجمهور من خلال الرقص والتصفيق.
    لشكر الجزيل للسيد رأفت الخياري لتزويده لنا بالصور والفيديو
    In the mid-day sun, two performers dance in a cobble-stoned town square. Above them hang small Tunisian flags and behind them people of all ages clap and watch, smiling.
    أثناء أحد العروض النهارية يقوم أحد أفراد الفرقة بإثارةالزوار وأهل البلد يتجمعون لشراء حلويات المقروض الشهيرة خلال أيام المهرجان.
    الشكر الجزيل للسيد رأفت الخياري لتزويده لنا بالصور والفيديو

    وبينما أدرجت منظمة اليونيسكو العالمية مدينة القيروان القديمة المسورة على قائمة التراث العالمي إلا أن مهرجان المولد يضفي عليها حركة ديناميكية تظهر تاريخ المدينة الثري وروح السكان الذين يعيشون ويعملون فيها ويحتفلون بتراثها. ويتضمن المهرجان جملة من الأنشطة والعروض الدينية والثقافية والرياضية والسياحية ومعارض الصناعات الفنية والتقليدية التي يعمل بها صناع القيروان الموهوبين المعروفين بصناعة الملابس والمفارش التقليدية والأواني النحاسية والمنتجات الزراعية وخاصة السجاد. وتبدأ فعاليات المهرجان في مسجد عقبة بن نافع الكائن في مركز المدينة حيث تقام مسابقات في ترتيل القرآن الكريم ورواية قصص السيرة النبوية وفي رفع الأذان ومن هناك تمتد الفعاليات إلى بقية أنحاء المدينة.

    وأقيمت فعاليات المهرجان في عدد من ساحات مدينة القيروان بما فيها فسقية الأغالبة وهو المعلم التاريخي الذي شُيّد خلال القرن التاسع من قبل سلالة الأغالبة لتوفير مياه الشرب وقد حولت الفسقية الآن إلى حديقة كبيرة تشيد فيها المنصات الموسيقية المعدة لاتساع مئات الآلاف من الزوار القادمين لسماع الموسيقى الصوفية ومشاهدة الرقص الصوفي على أنغامها. والهدف الأساسي من توزيع المنصات في ساحات المدينة التاريخية المختلفة هو التأكيد على إمكانية اندماج التراث بنشاطات الحياة العصرية الحديثة.

    شرحت الهيئة المسؤولة عن تنظيم مهرجان المولد أنه بالإضافة للمناسبة الدينية فإن هذا المهرجان يشكل فرصة لتنشيط اقتصاد مدينة القيروان، فهو مناسبة لترويج الصناعات التقليدية وإقامة المعارض خلال أيام المهرجان وتقديم المأكولات الشهية التي تختص بها المدينة. كما يساعد على زيادة فرص العمالة الموسمية وتمكين روح التآلف والتضامن الاجتماعي حيث يسعى جميع سكان المدينة لضمان نجاح المهرجان من خلال عرض تاريخ وتراث وثقافة مدينتهم.

    Men, in the midst of a performance, sit holding large hand drums. Behind them, youth stand on a roof dancing.
    الشباب يرقصون على أسطح الأبنية في ساحة المدينة المركزية عندما بدأت الفرقة بالعزف وضرب الطبول.
    الشكر الجزيل للسيد رأفت الخياري لتزويده لنا بالصور والفيديو
    At nighttime, a large stage is set up for performers. In front of men wearing white garments and red fez stand three dancers. Two hold large flags, and one is dressed in traditional, golden-beige Tunisian dress, his arms thrown in the air emphatically.
    أثناء أحد العروض الليلية، حيث أضاف الرقص المسرحي والتلويح بالرايات إلى الجو الدرامي للموسيقى.
    الشكر الجزيل للسيد رأفت الخياري لتزويده لنا بالصور والفيديو
    In a town square surrounded by white and blue buildings musicians have set up chairs to perform. Surrounding them is a large crowd of people, excitedly waiting for the show to begin.
    مجموعة من الشباب والعائلات ترقص في ساحة الجرابة على موسيقى الطبول والغناء المسموعة في جميع شوارع المدينة.
    الشكر الجزيل للسيد رأفت الخياري لتزويده لنا بالصور والفيديو

    وقد يعتقد البعض أن التركيز على الاحتفالات الدينية والموسيقى الإسلامية الصوفية قد لا يروق لفئة الشباب ولكن ما رأيناه يثبت العكس. فالجمهور بجميع فئاته العمرية كان يستمتع بالعروض والأغاني لأن الموسيقى الإسلامية غنية أثرت وتأثرت بألوان الموسيقى المتعددة التي صادفتها في جميع أنحاء العالم. وفعلا كان الجمهور يغني ويرقص على ألحان موسيقى تقليدية تعود إلى تراث بلدان مختلفة أخرى ممزوجة بأغان كتبها مؤلفون تونسيون، وكانت بعض الأغاني محلية من مدن مثل القيروان وصفاقس.

    الموسيقى والصوفية مرتبطتان ببعضهم البعض ارتباطا وثيقا لا ينفصم. الصوفية هي عبارة عن جملة من المعتقدات والممارسات التي تركز على التأمل الروحي والتفاني في التقرب من الله والزهد في الثروة. وبسبب انتشارها في مناطق متعددة حول العالم فقد ظهرت طرق صوفية مختلفة ومتنوعة تأثرت بثقافة البلدان التي ظهرت فيها. فبينما تشكل الأناشيد والتراتيل الدينية جزءا لا يتجزأ من العبادات في جميع المجتمعات الإسلامية حول العالم، في تونس خصوصا تكون هذه الأناشيد والأذكار الدينية جزء من الروتين الأسبوعي بل بالنسبة لبعض المسلمين التونسيين هي جزء من حياتهم اليومية. وتحتل الموسيقى والأذكار والأناشيد مركزا أساسيا في المعتقدات الصوفية لأنها وسيلة للتقرب من الله وتجسيد عمق الروحانية وقوتها والتحريض على التأمل والتمعن في ملكوت الله، فهي تضفي أجواءاً تقرب المتأملين من الوجد والروح الإلهية. الصوفية متجذرة في الثقافة التونسية ويتجلى أثرها في معالم تاريخية تونسية كالمدارس والمستشفيات بالإضافة إلى الدور التي لعبته في قيادات حركات المقاومة ضد الاستعمار.

    تمكنا خلال أيام المهرجان من مشاهدة مجالس حضرة متعددة. والحضرة هي عبارة عن مجالس جماعية تتم فيها تأدية الذكر والأناشيد الدينية بإيقاعات موسيقية من قبل فرقة صوفية قد يصل عدد أفرادها إلى ثمانين فردا. كذلك استطعنا مشاهدة عروض الرقص الصوفي الإيقاعي الدائري الذي يجسد لحظات مهمة من حياة النبي محمد عليه الصلاة والسلام. وتَوَسّع مفهوم الحضرة في تونس ومدن شمال أفريقيا ليصبح لونا فنيا خاصا يشمل موسيقى مختلفة من عدة طرق صوفية وثقافات ومناطق متنوعة. وأثناء تلك العروض ترى عشرات الآلاف من الحاضرين منتشين يرددون سوية الأغاني المعروفة ويتمايلون رافعين أيديهم بطريقة مشابهة لحركات أيديهم أثناء الصلاة.

    الشكر الجزيل للسيد رأفت الخياري لتزويده لنا بالصور والفيديو

    وعندما سألنا أحد منظمي المهرجان عن دور الموسيقى الصوفية في الثقافة التونسية وعن أهميتها في احتفالات المولد النبوي أخبرنا السيد علي بن سعيد أن "الموسيقى الصوفية قد شهدت مؤخرا شعبية متجددة، فهي تأخذك برحلة روحية وجدانية تتجاوز المكان والزمان وتزودك بالإلهام وتساعدك على اكتشاف نفسك وروحك وترشدك إلى الحب والفضيلة بعيدا عن الكره والظلم والتحامل. فالموسيقى الصوفية فن ينقلك إلى عالم الروح حيث تتجاذب مع النفس والعقل وتبعد السامع عن الأمور المادية".

    إضافة إلى الرقص المولوي الذي يؤديه الدراويش الصوفيون فإن الثقافة التونسية غنية بنوع آخر من الموسيقى الروحية وهي موسيقى السطمبالي التونسية. وقد رافقت الإفريقيين السود القادمين من جنوب أفريقيا في رحلة العبودية المريرة وهي موسيقى روحية لمعالجة الأرواح من سلال العبودية. وبالرغم من المكانة المبهمة والغامضة التي تتمتع بها موسيقى السطمبالي في تونس إلا أن منظمي المهرجان أدرجوها ضمن فعاليات الاحتفالات وخصصوا لها المكان والزمان وخاصة في مهرجان العاصمة التونسية تونس. كذلك فإن تاريخ تونس والموسيقى الإسلامية فيها متأثرة بعدة ألوان وأنواع من الموسيقى منها: آلات وطابع الموسيقى العربية الأندلسية المعروفة باسم "المالوف" والموسيقى الشعبية المحلية في تونس وشمال أفريقيا، بالإضافة إلى الموسيقى التقليدية اليهودية التونسية.

    وليس من السهل تحقيق التوازن بين الثقافة التراثية والتغيرات الثقافية المعاصرة، وأي محاكاة بينهما تواجه العديد من التحديات والمصاعب، وخاصة فيما يتعلق بالتقاليد الموسيقية الدينية. فمن ناحية يريد العازف الموسيقي أن يحافظ على عراقة وروح وطابع الموسيقى الدينية والأداء التراثي التقليدي لها ومن ناحية أخرى يرغب بإدخال تغييرات حديثة تواكب العصر وتجتذب الأجيال الشابة. فمثلا في فعاليات مهرجان المولد، ترى الموسيقيين يعزفون الغيتار الالكتروني والأورغ جنبا إلى جنب مع الطبول والمزامير التقليدية. كذلك ترى المنصات الموسيقية مضاءة بالأضواء الصاخبة وأجهزة العرض الكهربائية إلى جانب الأبنية التاريخية مثل الجوامع والأضرحة وسبل المياه التي تعود إلى آلاف السنين. كما يقع على عاتق الموسيقيين ومنظمي المهرجان تحقيق التوازن بينما هو تقليدي وتراثي وما هو معاصر وحديث، فمع أنهم يرغبون باستحضار الجوانب التراثية من ثقافتهم وتجديدها لتواكب المتطلبات العصرية، إلا أنهم مقيدون بما تتطلبه منهم المحافظة على الروحانية والطابع الديني التراثي.

    A large stage is lit with blue and green lights at night. In front of a row of men, singing and sitting on the stage, stands a dancer, conducting the musicians.
    بعض العروض الصوفية مؤلفة من مغنين وموسيقيين وراقصين يصل عددهم إلى ٦٠ فرداً.
    الشكر الجزيل للسيد رأفت الخياري لتزويده لنا بالصور والفيديو
    People of all ages stand pressed up against a barrier, watching a performance. They look engrossed and some hold cameras/cell phones to capture what’s happening.
    أكبر العروض تكون في الليلتين الأخيرتين من مهرجان المولد حيث يتجمع عشرات الآلاف من الحضور في أي مكان يسمح لهم بالمشاهدة.
    الشكر الجزيل للسيد رأفت الخياري لتزويده لنا بالصور والفيديو

    في سبيل تحقيق هذا التوازن قام منظمو مهرجان المولد بتنسيق وتنظيم الفعاليات بطريقة تهدف إلى إيصال تراث مدينة قيروان وثقافتها إلى جمهور المهرجان وزوار المدينة. قال السيد علي بن سعيد " إن احتفالات المولد النبوي تتيح فرصة التعارف ضمن شعوب الأمة الإسلامية بتنوع أفرادها كما تسهل التواصل بين الناس في تونس وفي جميع أنحاء العالم من أجل الحفاظ على التعايش السلمي بين جميع الأديان والمعتقدات. ولطالما ركزت مدينة القيروان على مبدأ التعايش الاجتماعي والترقية الروحية في احتفالات المولد التي أقامتها وذلك لأن التركيز على النزعات التعصبية والاختلافات المذهبية في تاريخ الأديان والطوائف سبب العديد من التصادمات والاشتباكات بين أتباع الطوائف الإسلامية وأتباع الأديان الأخرى. لذلك فإننا نسعى من خلال مهرجان المولد النبوي الشريف إلى ترسيخ مبادئ الاعتدال والتسامح والتعايش السلمي بين جميع الطوائف الإسلامية والأديان الأخرى".

    ومما يجعل مدينة القيروان موقعا مهماً للصوفية هو وجود العديد من أضرحة الأولياء الصالحين في المدينة التي يزورها أتباع الصوفية ذلك أن زيارة القبور وتكريم الأولياء تشكل واحد من أركان الطرق الصوفية. كما أن جميع فعاليات المهرجان سواء كانت قوافل زوار المولد أو تراتيل الأناشيد النبوية والأمسيات الشعرية والموسيقية في مدح الرسول والإشادة بالأولياء، جميعها تساعد على خلق ذاكرة عميقة من شأنها أن تعزز الإحساس بالانتماء والترابط الاجتماعي. لذلك فإن مهرجان المولد النبوي يشكل لحظة التقاء بين أهل مدينة القيروان وزوارها من الصوفيين وغيرهم من المسلمين من جميع أنحاء تونس والبلدان المجاورة والعالم الإسلامي بأجمعه بما فيه إندونيسيا.

    أما بالنسبة لفريقنا، فما زالت أصداء الطبول ترن في آذاننا وذكرى الفن والموسيقى وأجواء مهرجان المولد النبوي الجميلة عالقة في أذهاننا، ونتطلع للعودة مرة أخرى لنكون جزءا من هذا الجمهور ونستمتع بهذه الفعاليات.

    سلون كِلِر وربيكا فِنتون تعملان مع فريق USAID (الوكالة الأمريكية للمشاريع التنموية الدولية) كجزء من برنامج السياحة الثقافية والتراثية، وقد حضرتا مهرجان المولد النبوي كممثلتين عن برنامج رعاية التراث الشعبي والإرث الثقافي في مؤسسة سمثسونيان. يهدف هذا المشروع المكث إلى بناء الكفاءات من خلال العمل مع ستة مهرجانات ثقافية تونسية.


  • Support the Folklife Festival, Smithsonian Folkways Recordings, Cultural Vitality Program, educational outreach, and more.

    .